يا رفيقة القهوة : أنا لا أحب القهوة

منازل خشبية صغيرة تبعث الدفء بمجرد النظر إليها ، تتشابه تلك المنازل إلّا من حدائق صغيرة إختلف لون الورودِ فيها مضاءة بقمرِ عظيم ، فالجميع قد رحل اليوم ..

يتحرك ظِلٌ مُتجه نحو كوخٍ صغير ترامى في وسط القرية بأقدامه الثلاث ، يمشي على مهل، كمن عقد صفقة رابحة مع الموت لا يخشى السنين الضائعة بين خطواته البطيئة 

في ليلة من ليالي شباط البارد في إحدى السنين، في قرية ريفية بين التلال التي إرتدت قممها قبعات بيضاء ، قرية هادئة لا يتجاوز عدد سكانها الثمانين..

في مقهى القرية دخل رجل يحمل أوزارًا على ظهره حتّى إنحنى ، مرتديًا بِنطالًا عليه رقعة أسفل ركبه الأيسر و قميصٍ أبيض يشابه لون لحيته السميكة و ياقة مطرّزة و بيده اليمنى عصاته ، لا أدري من منهما يتكئ على الأخر ، حاملاً صندوقًا بصعوبة تحت إبطه .. 

دخل المقهى و رافقته رياح قارصة ترجِفُ العِظام مِنها و ترقُص ، سيطر الهدوء على المقهى حتى من صوت ساعته المتوقفة ، لم تبارح عقاربها مكانها منذ مُدّة طويلة ، كهلٌ عجوز إتّجه إلى طاوِلته المعتادة ، في زاوية المقهى بكرسيين رثيين أكل عليهما الدهر و شرِب ، كرسيين رُبِطا بحبل مِشنقة فأيامهما أصبحت معدودة ..

ما إن وصل إلى كرسيّه حتى خارت قدماه فهوى على الكرسي ملقيًا بعصاه ، غطى غبار كرسيه مجال الرؤية ، أصبحت معدومة بسبب ذكريات قديمة تتخلل هذا الكرسي على شكل ذرات من غبار و أحزان .. لم يتمالك نفسه لديه حساسية من غبار الذكريات ، أخرج منديلاً نُقِشَ عليه حرفيين متشابكيين ، ماسحًا عينيه من قطرات ندى تكونت حولهما مارًا بنظارته السميكة .. 

تسللت يده إلى جيب معطفه العلوي و أخرج وردة حمراء يقارب عُمرها ٣٦ عامًا ، بلاستيكية لكنّ لسبب ما ما زالت رائحتها جميلة ، وضعها على الطاولة بجانب صندوقه ، أسند رأسه على الكرسي منصِتا لصوت صرير الباب ، تراطم الفناجين ، خرير الماء و صوت دندنة ليست بعيدة ، لا أحد في المقهى .. النادل ،  كهلنا العجوز و ذرات غبار تبعثرت حوله خالقة غِلافًا جويًا مليئًا بذكريات لم تطوى في سجل النسيان بعد ..
 
تشكلت موسيقى متخالطة من دندنةٍ و خرير 
أغمض الكهل عيناه المجعدتين حتى إختفت بين تجاعيد وجهه ..
إنقطع الخرير
ظلّ الصرير
علت الدندنة

- أرى أنك لم تذهب مع الجميع إلى المدينة المجاورة لتحتفل بالسنة الجديدة ؟
ببطء شديد تتفتح عيناه مشرقة بلون أسود داكن و بفمٍ حلّ عليه الربيع فتفتح
- لا زِلتُ في صباح ١٩٨٠
- ١٩٨٠ !! ألست متأخرًا بعض الشيء ؟
- هُناك جمدت ساعتي ، و خرجت الروح مِنها ، لِمَ لم ترحل أنت ؟
- دعهم يحتفلون ، مع من يحبون ، لا أحد أحتفل معه ، ثم أين كُنت ستقضي هذه الليلة من الماضي إن رحلت ؟
تنهد العجوز حتى خشي النادل أن تخرج روحه مع شهيقه
عاد إلى الحياة إنحنى نحوه مطقطقًا عِظامه ، مادًا يديه نحو صندوقه ، ما إن لمست يداه طرف غِطاء الصندوق حتّى تفجر طوفان من الرسائل الورقية منه حامِلاً نسائِم من عِطرٍ فرنسي و حِبر ، إجتاحت رائحة المقهى العتيق رسائل بعض مِنها جديد و الأخر كاد أن يختفي الحِبر منها ، بتواريخ مختلفة ، بِعنوان واحِد.
- كم عُمرك يا فَتى ؟
- ٢٤ ، منذ الأسبوع الماضي
- أكبر رسائلي هُنا تكبرك بـ ١٢ عامًا و أصغرها حديث الوِلادة صباح اليوم 
- لِمن هي ؟ هل... 
دبّ الشباب و تدفق في عروقه حتّى كاد أن يتلوّن شعره الحريري بسوادٍ حالك و غنّاها بنبرة قصائِديّه مقاطِعًا فضول النادِل الشاب 
- لحبيبتي 
- لكنّ ؟
- أجل منذ ٣٦ عامًا ، ولكنّها ما زالت هُنا 

ظلّ يطرق على صدره مشيرًا إلى قلبه بسبابته المهترءة ،الأحمق يكاد يحفر صدره بإصبعه
- و ما زلت تكتب لها ؟
- و سأظل أكتب لها حتى تُعمى عيناي من قِراءة رسائِلها ، حتى يخترق القَلم عِظام يديّ ، حتى أصارع إرتِجاف يديّ ، ولا أضطر لإعادة كتابة الرِسالة ستّة مرات ، سأظل أكتب لها في الصباحِ و وفي المساءِ و ما بينهما ، حتى ينفذ الورق و ينقرِض الشجر ، سأظل أكتب و أهذي و لها أدندن 
- ماذا فعلت كي تستحق هذا الوفاء ؟ 
- هي من دبت فيّ الحياة ، من جمعتني مع القلم ، من كانت سببًا في كُتُبي الأربعين و مِحور قَصائِدي الثماني مئة ، من كُنت أختلِق لها المناسبات فأهديها قصيدة غزلية في عيناها بمناسبة عيد ميلاد ابن جارنا التاسع الصغير أو أهديها في ذِكرى إستقلال دولة أوروبيّة  باقة ورد تتوسطها وردة صِناعيّة كُتِب عليها " سأظل أُحِبكِ حتى ذُبولِ أخِر وردة " من كُنت أعِد لها عشاءً في الشرفة إحتفالًا بصدور طبعة جديدة لكاتبٍ لا أعرِف اسمه في دولة ما 
- يبدو من السهل عليك إختلاق المناسبات 
- ما هو ذنبي إن كُنت أرى احتفالات العيد في عيناها ؟ ألا عذرتني ؟ ساقنا القدر و طوّع مسارينا ، أحيانًا الأقدار السيئة التي تحدث في حياتنا تضعنا مباشرة في الطريق الذي تحدث فيه أفضل الأشياء على الإطلاق فينزع الله من قلبك أمرًا كنت تظن نزعهُ مستحيلاً فيحدث أن يقوم أحدهم بإضاءة بقعة مظلمة في قلبك كنت قد نسيت وجودها ، هي من حرّف القدر مسارينا كي نجتمع على منحنى في أخر الطريق ، من كُتبت في لوح قدري لي قدرا من في سمائي أمطرت عليّ غيمةً صيبها إخترق قلبي مطرًا نافِعًا  ، كانت تضحك فيقف العمر على عتبات ضِحكاتها و تتسع الدنيا في عينايّ ، لم أكن أعلم بأنّ الملائِكة تطير بالقرب منّا هكذا 

محدقًا في تلك الوردة الحمراء ، كانت قد زينت معطفه الأسود زرعت بجانب صندوقه و همس الكهل : 
- افتقدها ، أفتقِد نظاراتِها لفنجانِ القهوةِ كلّ صباح ، أفتقد جلوسها على كرسيك هذا هُنا أمامي ، أفتقِد إنحناءات وجهِها حينما تُرسمُ جنّة بثغرِها ، أفتقد كيف أنها تتفرد بزوج من العيون لا يتشابهانِ ، كلٌ مِنهما  يتنافس في إشعال الهوى في صدري ، أفتقد ضِحكتها ، أفتقد صوت ضحكتها ، أفتقد لون ضِحكتها ... نُكتها السيئة ، وحدي أنا من يضحك عليها ، كانت ماهِرة في إلقاء أسوء النكت تلك موهِبتها وكنت أمهر من يجيد الضحك عليها ، أفتقد ملمس يديها و لون عينيها ، أفتقد موسيقى الحلق و شعرًا من حدائِق الحَبق ، أفتقِد همسها و شرائِط جدائِلِها ، أفتقِد شامتِها و إفطار الصباح من قُبلاتٍ .
- أفِعلاً مرت ٣٦ عامًا ؟
- ٣٦ عامًا ، أربعة أشهر و ثلاثة أيام
- أراك إعتّدت القدوم هُنا و حدة تحتسي قهوتك منذ أن بدأت العمل هُنا مع والِدي حين كنت في التاسِعة ، تنسج بقلمِك معاطِف فروٍ على أوراق رسائِلك ، لكنّ لم أعي يومًا سِرها ، لم أكن أؤمِن بالحبِّ ..

لافًا أصابعه المُتجعِّدة حول الوردة ممسكًا إياها بإحكام ، موجهًا يدهُ بإرتعاشٍ نحو النادِل ..

همس النادِلُ : لم أكن أؤمُن حتّى الآن ..
تناول الوردة و ردّد : عجبًا لا زالت تملِك رائحة جميلة أيعقل أن عمرها ٣٦ عامًا !!
- كنت دائمًا ما أعلِّقها على مِعطفي ، بجانب قلبي ، تدب فيها الحياة منذ أول باقة أهديتها لها ، دعها بِجانِب صدرِك ترتوي من نَبضات قلبك ، تمليكَ قَصائدي ، و تهمِسُ لكَ أشعاري ، دع الرسائِل عـندك، إقرأها كلّما قلّ إيمانُك في الحُبِّ و تسلل الشكّ في قلبِك ..

تطفلت الرِّياحُ على حديثِهما بعنوة ، فتحت الباب فعلى صوت صريخِ صريره ، رجف العجوزُ و إرتعَشَ ، فلا نظراتٍ تدفئُه ولا بسمةٌ تُثيرُه ولا فنجان قهوة يُشعِل الغيرة فيه بتقبيل ثغر زوجته ..

رقّ قلب الفتى فنهض مسكِتًا صراخ الريح ، سادًا الباب في وجهِها كاتمًا نَفَسَها و إلتفت نحو الكهل سائِلًا :
- فنجان قهوةٍ سوداء بِلا سُكر ؟ كما إعتدت دائِما ؟أتعجب كيف تستسيغ طعمها المرّ !
- بل فِنجان شاي ، لم أُحِبّ القهوة قط ! ، هي من أَحَبّتها ، و أنا من أحببتُها هي .

تعليقات

‏قال غير معرف…
عمت مساءً يا سيد،

أتمنى أن تكون في أفضل حال.

ربما كانت هذه الطريقة الوحيدة لأخبرك بما يختلج قلبي.

فأنا كتبت لك كثيراً لكن كلماتي لم تصل لقلبك.

سأخبرك بقصتي، أنا تلك الفتاة التي تركت لك شرفتها مفتوحة يوماً وسلمتك مفاتيحها، فهي لا تخشى قربك ولو كنت قاتلاً متسلسلاً. أنا تلك الفتاة التي كانت لا تمل الحديث إليك، كانت تحب قراءة أي حرف منك، فحروفك تمثل لها الكثير. أنا تلك الفتاة التي شاركتك قصصها التافهة لتخبرها أنك هنا وأن كتفك يتسع لها. أنا تلك الفتاة التي قلت لها يوماً، كوني مبتسمة دائماً.

أتمنى أن تكون عرفتني.

سيدي،

وددت كثيراً أن أخبرك عن تسارع نبضات قلبي وقت الحديث إليك، عن لهفتي حين أنتظر رسالة منك، وددت كثيراً أن أخبرك أني أحبك.

ترددت كثيراً وهذا ما دفعني لإخبارك بهذه الطريقة، فأنا لا أريد أن أخسرك.

لا تفي الكلمات مشاعري لذلك لن أكتب الكثير.

فقط أحبك، حتى تذبل آخر وردة في باقة من لا يحب القهوة.

المخلصة لك دوما.

المشاركات الشائعة