أضغاث أحلام
كاد أن يسقط الهاتف على الأرض من بعد رنين المنبه للمرة السادسة،
بدأ بحساب أيام غيابه عن العمل،
مد يده إلى الطاولة ليرفع أكواب القهوة المبعثرة،
علّه يبحث عن كوب قديم ما زال يحوي القليل،
سرعان ما قفز الكوب منتحرًا من يدهالنائمة على الأرض.
- سحقًا
يتحاشى النظر للمرآة،
لا داعي بأن يذكر نفسه : يجب علي أن أشذب لحيتي اليوم.
لا حاجة لقول هذا فهو يذكر نفسه منذ صباح الشهرين الماضيين.
ارتدى ملابس ليلة أمس المرمية على كرسي بجانب السرير و تناول كتاب يتحدث عن تجربة إيجابية لفتى يصغره بعشرسنين .
مشى باتجاه السرير متصفحًا الكتاب حتى وقعت عينه على جملة (الفشل ليس النهاية).
حسنًا ها هي ذا، وجدتها.
مزق الأوراق ليمسح بقايا القهوة المتسللة إلى هاتفه تاركًا إياها مرمية على الأرض تتشرب القهوة ليذوب الحبر من عليها
ماذا يحدث لو صدقت بعض الأحلام؟
بهدوء أدار مقبض الباب ثلاثة أرباع الدائرة إلى اليمين و بسبع خطى متعثرة، خالي اليدين إلا من قلم غرسه بين أصابعه و قبعة تكاد تخفي وجهه.
كالشبح لا ينتبه أحدٌ له، إلا من آثار ظله النازف عندما يلامس أرضية المقهى الخشبية المهترئة،
صرير الباب
عم الهدوء أربعة ثوانٍ ثم سارع رواد المقهى في النعيق،
جال بعينيه في المكان، تحاشى النظر في وجوه الجميع،
حتى حلً نظره على طاولة مرمية في زاوية المقهى بجانب الزجاج
تخلص من الكرسي الآخر حتى لا يزعجه أحد بطلبه
وأشار إلى النادل
قهوة سوداء..
هرع يبحث عن ورقة في جيبه، كي يتقيأ عليها ما بقي من أحرف في حنجرته،
تناول منديل من على الطاولة المجاورة
وبدأ يوشم على المنديل بخطه المتعرج.
إلى المسودة الأولى والقصيدة الأخيرة
أقرأ على عينيك السلام،
توقف عن الكتابة وأردف قائلاً: ماذا لو..
ماذا لو كنت في عالم آخر؟
لو تغيرت مفاهيم الجميع،
ماذا لو لم أتخذ هذه القرارات؟
لو تغيرت العملات وتلاشت الحدود أو لو كان بمقدوري أن أبادل القمح بقصيدة غزل لفلاح يهديها زوجته .
لو لم أجبر على الالتحاق بالجامعة لأجل تأمين مستقبل لا أعلم متى سيحل،
لو لم أمارس عملي رغمًا عني وأضطر لسماع زميلات العمل وأحاديثهن التافهة.
لو استطعت التحرر من قيود الجميع، لولم يقلّم المجتمع أظافري، لتشبثت في قراراتي، لو لم تبتر أجنحتي لحلقت بعيدًا من هنا.
- تفضل 2365 قطرة قهوة
تناول الكوب،
لسع يده،
رمق النادل الذي اتسعت ابتسامته مقدار 2 سم من الطرف الأيمن فقط، شعر بدوار وسرت الحرارة في جسده.
عزل نفسه في قوقعته، وأخفى وجهه خلف قبعته، ارتدى سماعتيه، لم يكن يحب نوعًا معينا من الأغاني ، لم يكن يسمع الأغاني أصلًا،
بل كان يتخذها عذرًا كي يتجاهل الجميع، كي يتحاشى الرد عندما يسأل عن قهوته و ليعزل نفسه عن بؤس هذا العالم
أو ليتخذها ذريعة عندما يتطفل عليه أحد، بماذا تكتب؟
ما الذي يجعلنا متأكدين من أن الذي نعيشه ليس حلمًا وأننا نستيقظ منه أول ما تهوي رؤوسنا على الوسادة، والذي نراه في منامنا هي الأحلام.
لماذا لا يحدث أننا عندما ننام نذهب إلى كون آخر، كون حقيقي وليس هلامي؟
هذا إن كنا ننام ولا نعود لحياتنا الحقيقية.
لم يعد أي متسع على المنديل للكتابة عليه، لم يعتد أن يجمع كتاباته بين جلدتي دفتر ويسترسل على الورق.
اعتاد على تحرير مشاعره على أي سطح قابل للكتابة. منديل، فاتورة مطعم، كوب قهوة أو ظهر جريدة، واليوم أكمل رسالته على قائمة الطعام المعدة ببساطة، استغل عدم احتوائها على صور وبدأ بكتابة التالي:
أحلم،
في العالم الموازي
لا استيقظ فيه على عمل،
ولا تقلقني الفواتير،
ولا أملك هاتف،
لا أهتم بأخر عروض الفنادق،
لا التزامات ولا قيود،
لا مسؤوليات ولا مواعيد نهائية،
لا أكترث فيه بالاحتباس الحراري و بأخر دب قطبي ،
ولا اليوم الذي ستنقلب فيه الآلات وتبدأ باستعباد البشر
لدي حلم اختار فيه الكتب التي أودّ دراستها
اغوص في الأساطير الإغريقية دون نظرات الإستغراب.
في العالم الموازي،
امتلك مقهى،
حرّ
استيقظ لأصنع القهوة على صوت ببغائي المزعج، الذي يبدأ بالصراخ خائًفا كلما رأى الشمس، في صباح لا يشغل بالي سوى من أي بِلاد سأختار حبوب قهوتي،
تستيقظ كلّ خلية فيّ عند طحنها بيديَّ،
أن أكتب قصيدة على ظهر فاتورة الفتاة شاردة الذهن، لتمسح بمنديلها بخفاء بقايا الدموع وتطلي شفتيها المكتنزتين بأحمر شفاها الصارخ وتبدأ بطباعته على فنجان قهوتها الذي برد في سبيل انتظارمعتوه.
أن أرسم فيل يطير ببالونات يمسكها بخرطومه على كوب طفل، وأملّي ذاك الفتى المتظاهر بالغباء شطرًا يساعده في نيل إعجاب زميلته التي اعتادت شرح دروسه له.
أن نعجن انا وزوجتي العجين الخاص بنا،
أن يحمرّ خداها من حرارة الفرن،
فأقبلهما ليهدأ احمرارهما،
وأضمدهما بقصيدتين،
وتتوسطهما قُبلة،
وأخرى
وأخرى
و أخرى.
فنبع قصائدي شابٌ لا ينضب،
وإن حاوَلت إخفاء خصلها البيضاء عنّي
اختلس النظر إليها،
لأراها تعدّ تجاعيد وجهِها على انعكاس الطبق.
أن يبدأ المقهى بعد الظهيرة باستقبال الهاربين من الواقع، الحالمين.
لا ملجئ سِوى صفحاتهم البيضاء ينسون فيها مستقبلهم الذي فَشِل ولم
تفد فيه خططهم.
ليملأونها بأسراب الرغبات التي سُجِنت في أقفاص المجتمع،
ليرسموا ما وأدته العادات وانتهكته التقاليد.
قد تمتد النقاشات العميقة في المقهى أيضاً، دون الحاجة لتبادل الأسماء.
بعد الظهيرة يومي الإثنين والأربعاء، تبدأ زوجتي دروس الحياكة،
أمسك لها خيوطها،
تنسج أبياتي،
تَغْزِلُ غَزَلْي،
تحدّث الفتيات عن طُرق غرس الإبر، لأشعر بالإبر في قلبي كلّما سقطت
عليّ عينها،
تسألني عن أحلى بيت كَتَبْتُه قط
كي تدرب الفتيات على التطريز بكتابته
تسألني عن أقربهم لقلبي
فأشدو لها بيتًا كتبته عن خاتمها الأخضر
تخيط أبياتي على قماشها،
وتقلّد رسوماتي على أخرى
أن تغيب الشمس في الأفق البعيد
تخلع زوجتي مئزرها وتسدل شعرها ليحل الليل.
أن ترتدي نظارتها الدائرية وتركزها على أرنبة أنفها اللطيفة
يخلع جميع من في المقهى أحذيتهم ويقومون بتعليق مخاوفهم على الشمّاعة،
في المقهى يتجرأ الجميع، تصرّح الفتاة بحبّها
ويكشف ذاك الخجول عن تساوي عدد قصائده بالشامات التي سقطت سهوًا من محبرة السماء على رقبة حبيبته.
هنا، الحياكة ليست حِكرًا على النِساء والغزل ليس حكرًا على الرجال
في المقهى يتشارك الرسام مع الرسامة في لوحة، تنعجن أيديهم في خلق تحفة يتشاركونبها، يقضون الدقائق تتراقص أيديهم كدراويش في حلقات دائرية بلا استحياء.
هذه هي الحريّة التّي بها أحلم،
فالحياة ليست سوى حطام خططنا،
سقط الهاتف على الأرض من بعد رنين المنبه للمرة السابعة
وبدأ بحساب أيام غيابه عن العمل
وبدأ يهذي
- ماذا يحدث لو صدقت بعض الأحلام ؟
تعليقات